*د. علي محمد الصلابي
المفـاهيم الحضـارية والدروس والعبـر
المفاهيم الحضارية
إن الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك[1] (ذي القرنين) مفاهيمَ حضارية، وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس, فأرشد القرآن الكريم عِباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد؛ فمن أهم هذه الركائز: الإيمان, العدل, العمل. وإنها لصفات لا بُدَّ منها حتى يستقيم أمر الشعوب, ويؤمنوا بحقٍّ على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم, وأديانهم, وعقولهم؛ فالإيمان بالله والعدل لا بد منه؛ لأنه مركب النجاة, وأمان أهل الأرض, والثقة بين الراعي والرعية, والقائد والمقود، والحاكم والمحكوم. وبالعمل والتعاون ينتشر العمران, وتعمُّ الحضارة وفق منهج رب العالمين. ربًّا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من منهج الله, الذي لا شطط فيه ولا خلاف, ولا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, ويكون بعيدًا كل البُعد عن هواه, فلا يظلم ولا يبطر ولا يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق.
لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز الإيمان والعلم والعدل والإصلاح، مستهدفةً بني الإنسان أينما حلَّ وأقام, أو ارتحل إلى أي مكان, فقاد الدنيا بالإيمان والخير والفلاح, وعمل على تخليصها من أسر المادة الطاغية, وكذلك الكفر والشرك والإجرام.
وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة الشر من النفوس, وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط على الناس, ومحاولة استعبادهم واستغلالهم لتحقيق مصالح شخصية, فالانحطاط الأخلاقي أضر شيء بالحياة الإنسانية.
حضارة متكاملة
إن الحضارة الربانية متكاملة, وقابلة للبناء في أي وقت كان فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه؛ لأن المنهج الرباني وأحكامه فيه كل الخير من عناصر معنويّة اعتقاديّة وروحية وأخلاقية وعلمية وإبداعية, وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتجاري, وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة, مرتبطًا بجميع جوانب الحضارة؛ ولذلك تُخرِج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية، ولنشر الهداية لتعميمها على العباد، وتسعى لبناء الرجال على أسسٍ من العقلية والأخلاق, والأفكار الصحيحة, والتصورات السليمة قبل بناء المباني وتجميل المدن, وصناعة الأسلحة.
وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها, من الحاجات الجسمية والعقلية والروحية، وتتطلع إلى التنافس الشريف, وإسعاد البشرية, وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسئولياتها الحضارية.
تسخير الإمكانات لتعزيز شرع الله
إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه تعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالِم, الذي يسخِّر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه، وخدمة الإنسانية، وإعلاء كلمة الله, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله[2]. ولقد سار نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- والخلفاء الراشدون من بعده, على نفس المنوال والهَدْي الذي رسمه القرآن الكريم, ولقد طبّقوا قول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].
إن الإيمان الراسخ, والعمل الصالح, والسيرة الفاضلة, والمقاصد الخيِّرة, والدعوة إلى الله وإلى الحق، واستخدام كل ما أوتينا من علم وحكمة، يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة الصحيحة, والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلاق ربانية، تُسعِد من دخل في منهجها في الدنيا والآخرة.
تعريف الحضارة الربانية
إن الحضارة الإنسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين الإسلام, وبذلك نستطيع أن نعرِّف الحضارة الربانية بأنها "تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الموحِّدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن, وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان"[3]
وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ, عبر الأنبياء والرسل والمؤمنين بهم, حتى الحلقة الأوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر النبي وما تبعه من تفاعلات وأحداث.
وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية, التي تضم بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى, وتقبل في عضويتها العالم بأسره؛ أسوده وأصفره وأبيضه، وفق المنهج الرباني وأحكامه، وتسعى لخدمة الإنسان وإسعاده؛ ليكون مع سائر الأكوان المحيطة به في وَحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله تعالى, وفي تسبيح أصيل للخلاّق العليم خالق الوجود كله[4], قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
عناصر الحضارة في سورة العصر
إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3]، لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها؛ فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل: الإنسان, التجمُّع -صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات- الزمن، الصبغة. كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم.
إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطِّل الربانية، ويجعلها في حالة توقف وانتظار، بل في حالة تأخر وانحسار[5].
إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس عقديَّة وأخلاق ربانية, وأكونُ قد أصبت الحقيقة إن قلتُ: وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالإيمان والعلم والعمل والعدل والإصلاح والتعمير.
الدروس والعبر والحكم
إن قصة ذي القرنين مليئة بالآيات والعبر والأحكام والآداب والثمرات والفوائد، نذكر منها:
1- الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً؛ لما له من خفي الحكم وباهر القدرة, فلا إله سواه.
2- الإشارة إلى القيام بالأسباب, والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل, وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر؛ فإن ما قصَّه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس, ومطلعها وشمالها وعدم فتوره, ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشُّم الأخطار, وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفَخار الذي لا يُشق له غبار - أكبرُ عبرة لأولي الأبصار.
3- ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق, وأنه متى ما تيسرت الأسباب, فلا ينبغي أن يَعُدَّ لا ركوب البحر ولا اجتياز القفر, عذرًا في الخمول والرضاء بالدون, بل ينبغي أن ينشط ويتمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
4- وجوب المبادرة إلى معالي الأمور.
5- إن من قدر على أعدائه وتمكّن منهم, فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال, وتجريعهم غُصص الاستعباد والنكال, بل يعامل المحسن بإحسانه، والمسيء بقدر إساءته.
6- إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين, أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز, وصيانة للحرية والتمدُّن من مخالب التوحش والخراب؛ قيامًا بفريضة دفع المعتدين، وإمضاء العدل بين العالمين.
7- إن على الملك التعفف عن أموال رعيته, والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه؛ ففي ذلك حفظ كرامته، وزيادة الشغف بمحبته.
8- التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام.
9- تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علميَّة وفق دراسة ميدانية صحيحة؛ لتنتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور.
10- مشاركة الحاكم العمالَ في الأعمال, والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر؛ لكي تنشط الهمم.
11- تذكير الغير وتعريفهم ثمار الأعمال المهمة؛ لكي يستشعروا رحمة الله تعالى.
12- استحضار القدوم على الله, واستشعار زوال هذه الدنيا، والتطلع إلى ما عند الله.
13- الاعتبار بتخليد جميل الثناء, وجليل الآثار؛ حيث نجد أن الآيات الكريمة أوضحت أخلاق ذي القرنين الكريمة من شجاعة وعفة وعدل وحرص على توطيد الأمن، والإحسان للمحسنين ومعاقبة الظالمين.
14- الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة, كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين؛ فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب، ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي[6].
وبهذا نقف عند الدروس والعِبر والحكم من هذا القصص القرآني الكريم.
المفـاهيم الحضـارية والدروس والعبـر
المفاهيم الحضارية
إن الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك[1] (ذي القرنين) مفاهيمَ حضارية، وجعل في سيرته دروسًا لكل من أراد أن يحكم بالحق والعدل من الحكام في الناس, فأرشد القرآن الكريم عِباده إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه بين العباد؛ فمن أهم هذه الركائز: الإيمان, العدل, العمل. وإنها لصفات لا بُدَّ منها حتى يستقيم أمر الشعوب, ويؤمنوا بحقٍّ على أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم, وأديانهم, وعقولهم؛ فالإيمان بالله والعدل لا بد منه؛ لأنه مركب النجاة, وأمان أهل الأرض, والثقة بين الراعي والرعية, والقائد والمقود، والحاكم والمحكوم. وبالعمل والتعاون ينتشر العمران, وتعمُّ الحضارة وفق منهج رب العالمين. ربًّا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من منهج الله, الذي لا شطط فيه ولا خلاف, ولا إفراط ولا تفريط, ولا غلو ولا جفاء, ويكون بعيدًا كل البُعد عن هواه, فلا يظلم ولا يبطر ولا يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق.
لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز الإيمان والعلم والعدل والإصلاح، مستهدفةً بني الإنسان أينما حلَّ وأقام, أو ارتحل إلى أي مكان, فقاد الدنيا بالإيمان والخير والفلاح, وعمل على تخليصها من أسر المادة الطاغية, وكذلك الكفر والشرك والإجرام.
وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة الشر من النفوس, وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط على الناس, ومحاولة استعبادهم واستغلالهم لتحقيق مصالح شخصية, فالانحطاط الأخلاقي أضر شيء بالحياة الإنسانية.
حضارة متكاملة
إن الحضارة الربانية متكاملة, وقابلة للبناء في أي وقت كان فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه؛ لأن المنهج الرباني وأحكامه فيه كل الخير من عناصر معنويّة اعتقاديّة وروحية وأخلاقية وعلمية وإبداعية, وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي والزراعي والتجاري, وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة الفرد والمجتمع والدولة, مرتبطًا بجميع جوانب الحضارة؛ ولذلك تُخرِج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية، ولنشر الهداية لتعميمها على العباد، وتسعى لبناء الرجال على أسسٍ من العقلية والأخلاق, والأفكار الصحيحة, والتصورات السليمة قبل بناء المباني وتجميل المدن, وصناعة الأسلحة.
وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها, من الحاجات الجسمية والعقلية والروحية، وتتطلع إلى التنافس الشريف, وإسعاد البشرية, وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل مسئولياتها الحضارية.
تسخير الإمكانات لتعزيز شرع الله
إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه تعطينا صورة مشرقة للإنسان القوي المؤمن العالِم, الذي يسخِّر كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز شرع الله وتمكين دينه، وخدمة الإنسانية، وإعلاء كلمة الله, وإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ومن عبادة الناس والمادة إلى عبادة الله[2]. ولقد سار نبينا -عليه أفضل الصلاة والسلام- والخلفاء الراشدون من بعده, على نفس المنوال والهَدْي الذي رسمه القرآن الكريم, ولقد طبّقوا قول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].
إن الإيمان الراسخ, والعمل الصالح, والسيرة الفاضلة, والمقاصد الخيِّرة, والدعوة إلى الله وإلى الحق، واستخدام كل ما أوتينا من علم وحكمة، يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة الصحيحة, والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلاق ربانية، تُسعِد من دخل في منهجها في الدنيا والآخرة.
تعريف الحضارة الربانية
إن الحضارة الإنسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين الإسلام, وبذلك نستطيع أن نعرِّف الحضارة الربانية بأنها "تفاعل الأنشطة الإنسانية للجماعة الموحِّدة لخلافة الله في الأرض عبر الزمن, وضمن المفاهيم الإسلامية عن الحياة والكون والإنسان"[3]
وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ, عبر الأنبياء والرسل والمؤمنين بهم, حتى الحلقة الأوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر النبي وما تبعه من تفاعلات وأحداث.
وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية, التي تضم بين أرجائها تفاعلات الأمم والشعوب المندرجة تحت شرع الله تعالى, وتقبل في عضويتها العالم بأسره؛ أسوده وأصفره وأبيضه، وفق المنهج الرباني وأحكامه، وتسعى لخدمة الإنسان وإسعاده؛ ليكون مع سائر الأكوان المحيطة به في وَحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله تعالى, وفي تسبيح أصيل للخلاّق العليم خالق الوجود كله[4], قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
عناصر الحضارة في سورة العصر
إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3]، لوجدناها بحق تمثل معنى الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها؛ فالسورة حوت عناصر الحضارة كلها بوضوح كامل: الإنسان, التجمُّع -صفة الجمع في السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات- الزمن، الصبغة. كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم.
إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطِّل الربانية، ويجعلها في حالة توقف وانتظار، بل في حالة تأخر وانحسار[5].
إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس عقديَّة وأخلاق ربانية, وأكونُ قد أصبت الحقيقة إن قلتُ: وترك لنا معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها بالإيمان والعلم والعمل والعدل والإصلاح والتعمير.
الدروس والعبر والحكم
إن قصة ذي القرنين مليئة بالآيات والعبر والأحكام والآداب والثمرات والفوائد، نذكر منها:
1- الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض, ورزقه من يشاء بغير حساب ملكًا ومالاً؛ لما له من خفي الحكم وباهر القدرة, فلا إله سواه.
2- الإشارة إلى القيام بالأسباب, والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل, وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر؛ فإن ما قصَّه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس, ومطلعها وشمالها وعدم فتوره, ووجدانه اللذة في مواصلة الأسفار وتجشُّم الأخطار, وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفَخار الذي لا يُشق له غبار - أكبرُ عبرة لأولي الأبصار.
3- ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق, وأنه متى ما تيسرت الأسباب, فلا ينبغي أن يَعُدَّ لا ركوب البحر ولا اجتياز القفر, عذرًا في الخمول والرضاء بالدون, بل ينبغي أن ينشط ويتمثل في مرارته حلاوة عقباه من الراحة والهناء.
4- وجوب المبادرة إلى معالي الأمور.
5- إن من قدر على أعدائه وتمكّن منهم, فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال, وتجريعهم غُصص الاستعباد والنكال, بل يعامل المحسن بإحسانه، والمسيء بقدر إساءته.
6- إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين, أن يبذل وسعه في الراحة والأمن دفاعًا عن الوطن العزيز, وصيانة للحرية والتمدُّن من مخالب التوحش والخراب؛ قيامًا بفريضة دفع المعتدين، وإمضاء العدل بين العالمين.
7- إن على الملك التعفف عن أموال رعيته, والزهد في أخذ أجر في مقابل عمل يأتيه؛ ففي ذلك حفظ كرامته، وزيادة الشغف بمحبته.
8- التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام.
9- تدعيم الأسوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس علميَّة وفق دراسة ميدانية صحيحة؛ لتنتفع به الأجيال على مر العصور وكر الدهور.
10- مشاركة الحاكم العمالَ في الأعمال, والإشراف بنفسه إذا تطلب الأمر؛ لكي تنشط الهمم.
11- تذكير الغير وتعريفهم ثمار الأعمال المهمة؛ لكي يستشعروا رحمة الله تعالى.
12- استحضار القدوم على الله, واستشعار زوال هذه الدنيا، والتطلع إلى ما عند الله.
13- الاعتبار بتخليد جميل الثناء, وجليل الآثار؛ حيث نجد أن الآيات الكريمة أوضحت أخلاق ذي القرنين الكريمة من شجاعة وعفة وعدل وحرص على توطيد الأمن، والإحسان للمحسنين ومعاقبة الظالمين.
14- الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أممًا متباينة, كما كان يرمي إليه سعي ذي القرنين؛ فإنه دأب على توحيد الكلمة بين الشعوب، ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني والشرع السماوي[6].
وبهذا نقف عند الدروس والعِبر والحكم من هذا القصص القرآني الكريم.