-
ــ فى مواجهة حالة متزايدة من الحديث عن المبادئ فوق
الدستورية كان الظاهر فيها أن إعدادها وصياغتها قد يوكل إلى قوى وشخصيات
بعينها وكأنها تملك الوصاية على الوطن فى تلك اللحظة التاريخية، دعت بعض
القوى الإسلامية لمليونية تحت عنوان «مليونية الشريعة» أو مليونية «الهوية
الإسلامية».
ثم دارت حوارات (إسلامية ــ إسلامية)
و(إسلامية ــ متعددة) للوصول إلى توافق وطنى لأجل منع مزيد من الاستقطاب
والانقسام فى المشهد السياسى والثورى واتفقنا على أن تكون المليونية يوم
29/7 تحت عنوان «الإرادة الشعبية ووحدة الصف» وكان الحوار صريحا فى ضرورة
أن تتوافق القوى الوطنية على منع صور الانقسام وأن تبقى محافظة على وحدة
الصف الثورى والضغط لأجل تحقيق مطالب الثورة شريطة أن نحترم جميعا الإرادة
الشعبية فلا يمارس أحد أى نوع من الوصاية ــ لا باسم النخبة السياسية ولا
حتى باسم القوى السياسية مجتمعة ــ وأن نعود فى اختلافاتنا للشعب وأن ننزل
على إرادته من خلال استفتاءات وانتخابات حرة نلتزم جميعا بنتائجها وإن
خالفت آراءنا وأطروحاتنا.
2ــ فى إطار حملة التفزيع من الإسلاميين
بالغت بعض المنابر الإعلامية فى الحديث عن المواجهة الإسلامية ــ غير
الإسلامية واحتمالات تحول التحرير إلى ميدان لإراقة الدماء، وثبت أن تلك
المبالغات والتهويلات لا أصل لها فلقد دخل للميدان أكثر من مليون ونصف
المليون وخرجوا منه دون أن يحدث شىء من هذه المخاوف.
3ــ للحق والتاريخ ــ (ولا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيهم إن لم يسمعوها ) ــ:
كنا
ننتظر أن يكون دخول الإسلاميين بهذه الكثافة العددية غير المسبوقة إضافة
كبيرة للمشهد الثورى وللمطالب الثورية فتصل الرسالة للمجلس الأعلى أن
جماهير الثورة (وفى القلب منها الإسلاميون) لاتزال قادرة على حشد الملايين
من ورائها لاستكمال مسيرة الثورة، ولكن للأسف الشديد تحقق الحشد المليونى
ولكن توارت المطالب الثورية وتوارى المشهد الثورى وبرزت قضايا الشريعة
والهوية وهى العناوين الصحيحة ــ محل القبول من القاعدة العريضة من الشعب
ــ ولكن بروزها بهذه الطريقة (وبالمخالفة للعنوان الذى تم التوافق عليه)
جاء فى الزمان والمكان غير الصحيح. والمؤكد أن وحدة الصف بين القوى الوطنية
قد تأثَرت سلبا بهذه المليونية وكأن مفهوم الإرادة الشعبية (بمعنى رفض
الوصاية على المشهد الثورى وضرورة الاحتكام لإرادة الشعب) قد تم تجاوزه
فانتقلنا من وصاية غير الإسلاميين إلى هيمنة الإسلاميين على المشهد.
عشت
منذ نعومة أظافرى مشغولا بالمشروع الحضارى الإسلامى والهوية الحضارية
الإسلامية التى تقوم على ثوابت وأصول ومبادئ الشريعة الإسلامية القادرة على
بعث ونهضة هذه الأمة وعودتها لصدارة المشهد الحضارى، ولكنى أؤمن بأن
الطريق الصحيح للوصول إلى تطبيق الشريعة والتعبير عن الهوية الإسلامية هو
الإرادة الشعبية الحرة ــ أى أن يختار الشعب هذه الخيارات بإرادته الحرة
دون وصاية عليه من أحد ــ وبالتالى لا أوافق على أن تكون الوسيلة لتحقيق
هذه المطالب هى المظاهرات والمليونيات وإنما من خلال تبنى برامج سياسية
للأحزاب الإسلامية تنجح فى إقناع الجماهير بها وحشدهم وراءها فتترجم
الجماهير إرادتها (لهذه البرامج والسياسات المعبرة عن الفكرة الإسلامية)
وموافقتها عليها من خلال استفتاءات وانتخابات حرة فى مناخ ديمقراطى صحيح.
وأؤمن أن ملايين من الشعب المصرى ستصوت لصالح هذه المبادئ والقيم الإسلامية
لكنى أؤمن أيضا بأن هذه الملايين من الشعب المصرى المحبة للقيم الإسلامية
والمتمسكة بثوابت الشريعة الإسلامية لن تقبل فرض الوصاية عليها من
الإسلاميين كما لم تقبلها من غيرهم.
فى الأيام القليلة الماضية
قابلت الكثير من قيادات التيارات الإسلامية (للمرة الأولى) ففاجأنى كثير
منهم بما لديه من الرؤية الوطنية التوافقية بعيدة النظر وصدمنى آخرون
بنظرتهم الضيقة، حيث عانينا كثيرا مع البعض من أجل أن يسمحوا بقداس الأقباط
ومن أجل أن يسمحوا ببقاء الشيخ مظهر شاهين خطيبا للجمعة، وأصروا على رفض
الأغانى الوطنية، ويصعوبة سمحوا للأنبا بولس بإلقاء كلمته وسط مقاطعات
كثيرة، وهى ممارسات تدلل على ضعف الخبرة فى العمل السياسى والجماهيرى متعدد
الانتماءات، وتؤكد على ضرورة مراجعة هذه الجماعات لمواقفها من القضايا
الخلافية التى ــ هى على الأقل ــ ليست بمنكرات معلومة من الدين بالضرورة
ــ، لابد أن تبحث تلك القيادات موقفها من القضايا الخلافية والفرعية وكيف
ستتعامل معها وهل ستقبل بالمساحات المشتركة وبحق الجميع فى طرح مواقفه
وتتغاضى عن كثير من الاجتهادات الفرعية والخلافية المخالفة لاجتهاداتها
الفقهية؟
4ــ لقد وصلت الرسالة أمس أن أحدا لا يستطيع تجاهل قيم
وثوابت هذا المجتمع، ولكن صاحب تلك الرسالة حالة من القلق لدى قطاعات عريضة
من المجتمع ترفض هيمنة الأكثرية العددية كما رفضت وصاية الأقلية النخبوية
من قبل، وفى كل حال تبقى الإرادة الشعبية لـ83 مليون مصرى أكبر من كل هذه
القوى بما فيها الإسلامية، وحيث إن الاحتكام لإرادة الشعب واحترامها هى من
ثوابت الفكرة الإسلامية والمدنية على السواء. فهل نأمل فى التزام الجميع
باحترام (الإرادة الشعبية) لنحسم الخلافات بين مختلف القوى الوطنية كى ننجح
فى بناء توافق وطنى واستمرار (وحدة الصف) دون هيمنة ولا وصاية من أحد ودون
تهميش ولا إقصاء لأحد كذلك.