ما شاهدناه فى محاكمة الرئيس السابق
كان مثيرا وخاطفا للأبصار
لا ريب، لكن ما سمعناه كان جارحا للآذان. لا كلام لى فيما رأيناه لأن الصور
وفَّت وكفَّت فضلا عن أن الجميع تحدثوا فى هذا الشق، لكن الذى سمعناه من
المحامين سكت عليه كثيرون، رغم أننى أعتبره فضيحة تستحق الإثبات والمراجعة.
ذلك أنه من بين نحو عشرين محاميا تحدثوا أمام المحكمة فإن واحدا فقط هو
الأستاذ فريد الديب تحدث بلغة عربية سليمة، أما الباقون فإن لسانهم العربى
بدا عاجزا ومشوها على نحو مذهل. إذ إن مستواهم فى التعبير اللغوى لم يكن
يتجاوز مستوى تلاميذ المدارس الإعدادية.
كنت أحد الذين صدموا فى لغة المحامين. ذلك أننى لأسباب يطول شرحها ــ
بعضها يتعلق بالخبرة المهنية فى سكرتارية التحرير ــ استشعر وخزا كلما سمعت
خطأ لغويا، واعتبر أن مثل هذه الأخطاء تشكل عدوانا وإهانة للهوية العربية.
لكننى سكت يومذاك. إذ وجدت أنه من غير المستساغ أن أخرج القارئ من أجواء
محاكمة مبارك وما استصحبته من أصداء فى داخل مصر
وخارجها، لأشغله بالفضيحة اللغوية التى تجلت فى كلام المحامين. من ثم فقد
تجرعت الحزن واختزنته، لكن الوجع ظل قائما. إلا أن حوارا بثته الإذاعة
البريطانية يوم الإثنين الماضى 8/8 أخرجنى من هذه الحالة. ظل أن مذيعة أحد
البرامج سألت ضيفها الذى كان صحفيا مقيما فى لندن منذ 30 سنة عن رأيه فى
تدهور المستوى اللغوى للمحامين المصريين الذى ظهر أثناء جلسة محاكمة الرئيس
السابق.. فوافقها الرأى وقال إنها ظاهرة شائعة فى أوساط الأجيال الجديدة
من المثقفين. نبهنى الحوار إلى أن بث وقائع الجلسة على الهواء أثار فضول
الملايين فى العالم العربى وخارجه، الأمر الذى أتاح للجميع أن يتابعوا كلام
المحامين وأن يتعرفوا على الفضيحة بأنفسهم. وهو ما يعنى أن دائرة الفضيحة
شملت كل الناطقين باللغة العربية، بقدر ما صدمت الغيورين على الفصحى الذين
لا أشك فى أن أحدا منهم لم يكن يتصور أن يصل التدهور اللغوى بين خريجى
الجامعات فى «الشقيقة الكبرى» إلى تلك الدرجة من التدنى والقبح.
لا أعرف إلى أى مدى فوجئ العالم العربى بلغة المحامين المصريين. لكن الذى
أعرفه أنها ليست مشكلة المحامين وحدهم. ولكن المحامين مجرد «عينة» لمستوى
خريجى الجامعات، الذين انتقلوا من الأمية اللغوية التى حصلوها فى مراحل
التعليم السابقة. إلى مستوى آخر من الأمية فى الجامعات التى لا توجه أى
عناية للغة العربية، بل إن بعض كلياتها أصبحت تتباهى بأنها فتحت أقساما
«أرقى» تدرس باللغات الأجنبية، وطلابها وطالباتها ينظرون بدونية إلى
زملائهم الذين يدرسون باللغة العربية.
إذا تتبعنا المشكلة فى
عمقها فسنجد أن انحطاط اللغة الفصحى له أسباب عدة من بينها اتصاله الوثيق
بتراجع مؤشرات الاعتزاز بالهوية والكبرياء الوطنى. ولذلك فإن انحطاط اللغة
يظل من تجليات الانحطاط الثقافى والهزيمة الحضارية. ولذلك قيل إن اعوجاج
اللسان علامة على اعوجاج الحال.
إن مراحل الضعف السياسى والانكسار
الحضارى تصيب البنية الثقافية فى مقتل، بذات القدر الذى تضعف فيه مراكز
العافية الأخرى فى المجتمع. لذلك فإن تدهور التعليم يصبح ضمن أخطر تلك
الانهيارات، ذلك أنه لا يقوض الحاضر فقط لكنه يدمر المستقبل أيضا ــ من هذه
الزاوية أزعم أن الأداء البائس للمحامين يظل أحد القرائن التى تدين عهد
مبارك، وأن أولئك المحامين أصبحوا من حيث لا يدرون شهودا على انحطاط عهده
الذى لم تصغر فيه مصر فقط، ولكنها مسخت وتشوهت أيضا.
حين انهار
التعليم فى مصر، لم ينحط مستوى الإحاطة باللغة العربية ولا ضعف مستوى
الخريجين فقط، ولكن أدى ذلك إلى انتعاش المدارس الأجنبية التى باتت تهدد
وجود العربية الفصحى ذاته. وفى الوقت الراهن فإن كل أبناء القادرين جرى
احتلال لسانهم باللغة الإنجليزية إلا من رحم ربك بطبيعة الحال. واستمرار
هذا الوضع يجعلنا نتشاءم كثيرا بالمستقبل، الذى أزعم أن الفصحى ستلقى فيه
ضربات قاصمة وقاضية.
فى أجواء الهزيمة ينتعش المتغربون ويجترئ
الغلاة والمتعصبون الذين يعادون العربية الفصحى ويحتقرون شأنها. ولدينا فى
مصر من بات يبث برامج تليفزيونية ونشرات إخبارية باللهجة العامية، فى عداء
سافر للعربية الفصحى وللهوية التى عبر عنها. وقد بلغ احتقار العربية
والازدراء بها حدا جعلنا نقرأ فى إعلان قبيح نشر أكثر من مرة فى شهر أبريل
الماضى أن: الشبكتين بؤا (بقيا أو أصبحا) شبكة واحدة والفرحة بَئِت فرحتين!
إن احتقار اللغة عار يعبر عن التصاغر واحتقار الذات.